في أحدى الليالي مطلع الشهر الحالي وقبيل أن تغلق المحلات أبوابها بقليل، دخلت إلى أحد المحلات لأسأل عن سلعة ما، فوجدت المحل شبه فارغ من المتسوقين، إلا من مسؤول المحل و طفل يتراوح عمره بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة، نحيل الجسم رث الثياب، قدماه حافيتان، وقد أخرج من أحد جيوبه مجموعة كبيرة من النقود ذات الفئات المختلفة، ومن الجيب الآخر كومة من النقود المعدنية، ويبدوا بأنه قد دار حوار قصير بينه وبين البائع في ذلك المحل على ناصية السوق، لاستبدال تلك النقود بفئات أكبر، وذلك قبل أن أدخل عليهما ، ويبدوا بأن الطفل قد ارتبك لمقدمي، فبادرت بالقول بأنني ارغب في الحصول على النقود المعدنية لحاجتي اليها في شراء تذاكر من أجل استخدامها في المواقف المدفوعة المحيطة بالسوق، فأطمئن قليلا ونظر إلى مسؤول المحل وكأنه يستأذنه أو أو يسأله عن رأيه حول ما قلت، فبادر العامل وقال لا بأس أعطه ما يريد ... فقلت: بأنني احتاج إلى عشرة ريالات معدنية فقط، فأعطاني أيها بعد أن ناولته العملة الورقية فئة العشرة ريالات .... فوضعتها في جيبي وبدأت اتجول داخل المحل واتفحص بعض السلع تاركا لهما حرية الحوار وكأني لا أبالي بما يحدث، فأخذ البائع من الطفل كل ما لديه من نقود معدنية وورقية من فئة الريال والخمسة ريالات والعشرة ريالات .... واستبدلها بفئة أعلى ربما أنها بضع مئات من الريالات، وكان ذلك حصيلة يوم من التسول أو ربما بعض يوم.
إن التسول ظاهرة سلبية تسيء إلى سمعة أي مجتمع ومظهره الحضاري، ويمثل التسول واستجداء الناس والشحاذة التي يمتهنها هؤلاء الأطفال المدفوعين ربما من عصابات منظمة، إما جماعات أو افرادا، هم من يديرون هذه الحرفة التي تدر عليهم ذهبا ومالا وفيرا، أصبحت اليوم وكأنها أشبه بإدارة الموارد البشرية في إحدى الشركات الكبرى، وهي بالفعل إدارة منظمة للمتسولين تدار بطريقة أو بأخرى، احترافية كانت أو بدائية، لكنها في النهاية لها أسلوبها وقوانينها التنظيمية.
الغريب في الأمر أننا نشاهد بشكل يومي جموع من المتسولين وهم يجوبون الطرقات والشوارع والأسواق باحثين عمَّن يعطيهم بعد أن يتغنوا بالعبارات الحزينة والدعوات الرنانة ذات السجع، التي تأثر في القلب وتوجعه، فيخرج المسكين من جيبه ما تجود به نفسه ظنا منه بأنه سيوقف يزيل آلام ذلك المتسول، وبأن ما أعطاه سيساهم في تخفيف معاناته التي شرح شكواها منذ قليل في قصة حزينة مختصرة، وهو لا يعلم بإنه قد وقع في الفخ، بمجرد أن أطلق العنان لعاطفته الفطرية الجياشة.
الذي لا يعلمه الكثير بان أغلب المتسولين غير محتاجين للمال، لكنهم يعتبرون التسول - من وجهة نظرهم - مهنة كأي مهنة أخرى، ويبررون لذلك بانهم يحتاجون إلى جهد كبير من أجل الحصول على المال، ويلزمهم مزيدا من المشقة والتعب، وتحمل السير على الأقدام لمسافات طويلة، والوقوف في الشمس طوال اليوم، و بذل المزيد من الصبر والجلد حين يستجدون ويستعطفون الناس،... وبهذا فقد امتهنت فئـات معینـة مـن الناس هـذه الحرفـة، وجعــلوا من التــسول والاستجداء مهنـة یعتاشون منها، وأصبحت بالنسبة لهم وسيلة من وسائل كسب الـــرزق، حتى أنهم ذهبوا لأبعد من ذلك فدأبوا على تعليم أطفـــالهم علیهــا منــذ الـــصغر، ویتوارثونهـا كابرا عن كابر وجـیلا بعـد جیـل، حتـى أصـبحت عـادة وعـرف متأصل عندهم.
إلى هنا يظل الأمر مجرد أطفال ونساء ورجال يمدون أيديهم للناس ويتمتمون بعبارات فيها استجداء ودعاء يضع فيها عابر السبيل ما قسم الله لهم، ظنا منه بأنهم يستحقون، ..... لكن الأمر أخطر من ذلك بكثير، فكما أسلفت بأن هناك من يديرهم وربما هناك إدارة تعنى بتوظيفهم وتنظيمهم في أماكن محددة، حتى أنه قيل بأن موقع ما، من مواقع إشارات المرور في إحدى المدن بلغ ثمنه مائة وخمسون ألف ريال، حين باعه أحد المتسولون من أخر حين أراد الانتقال إلى مدينة أخرى.
وهناك من يستعبد الأطفال والنساء، ويسخرهم في عملية التسول، بمقابل أو بدون مقابل، هو معني بمتابعتهم ومراقبتهم على مدار الساعة، و هذا الفعل- بلاشك - يندرج تحت جريمة الإتجار بالبشر، حيث يتم تحويل الناس إلى رقيق من أجل الزج بهم للعمل في مجال التسول مقابل مبالغ زهيدة أو مقابل اكلهم وشربهم وايوائهم ....
لقد تحدث شهود عيان بان هناك مركبات تقوم بتوزيع المتسولين على أماكن معينة ومحددة كإشارات المرور، ومحطات الوقود، والأسواق، والجوامع والمساجد وغيرها من الأماكن العامة التي يعتادها الناس بكثرة، إضافة إلى التسول غير المباشر عبر الرسائل النصية وتلك التي ترسل عن طريق منصات التواصل الاجتماعي، فأصبح هناك تنوعا في أساليب التسول بما يوكب العصر الحديث الذي نعيش فيه،
ومن أجل السيطرة قدر الإمكان للقضاء على هذه الظاهرة، أنشأت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية إدارة من أجل هذا الشأن أسمتها إدارة مكافحة التسول، حيث يوجه ذوو العاهات والعجزة من المتسولين السعوديين إلى دور الرعاية الاجتماعية، والمحتاجون منهم تصرف لهم مساعدات مالية بعد دراسة حالتهم، ويحال الايتام والصغار إلى دور الايتام بعد أن تطبق عليهم لوائح دور التربية، أما المتسولون الأجانب الذين يشكلون نسبة عالية من المتسولين فإن مهمة متابعتهم وإنهاء إجراءات ترحيلهم تعنى بها الجهات الأمنية المختصة.
وإلى اليوم لا تزال الجهود قليلة جدا وغير حثيثة في مكافحة هذه الآفة التي غزت مجتمعنا، واخترقت خصوصية الناس، وخلطت أوراق المحتاجين بالنصابين وجماع المال، وعطلت لدى المتسول مبدأ فضيلة العمل، وجعلت منه يعيش عالة على غيره وعبئاً على المجتمع، رغم أنه قادراً على الكسب الحلال المشروع، والأدهى من ذلك والأمر إن كانت تلك الأموال التي تجمع عن طريق المتسولين تصل إلى جماعات تخريبية، إرهابية، مشبوهة، وهنا وجب أن يعطى الأمر الاهتمام البالغ للقضاء على التسول بجمع أنواعه وأشكاله وتجفيف منابعه.