اشتهر العالم الإسلامي على مرّ العصور بوجود شخصيات تاريخية وضعت بصمتها في سبيل نشر الإسلام، منهم من كان من أصلٍ عربي ومنهم من كان غير ذلك، ولكن رسالة التوحيد تعتبر مظلّةً يجتمع تحتها جميع المسلمين على اختلاف أجناسهم وأصولهم ولغتهم، ومن هذه الشخصيات التاريخية صلاح الدين الأيوبي.
وُلد صلاح الدين في تكريت من عائلة كرديةٍ كريمة الأصل وعظيمة الشرف، وكان والده حاكماً لقلعة تكريت، وتصادفت ولادة صلاح الدين الأيوبيّ مع إجبار والده يوسف بن نجم الدين على الخروج من تكريت فأخذه أبوه مصدراً للشؤم؛ حتى أن أحد الحضور في مجلسه قال له (ما يُدريك أن يكون لهذا المولود ملكٌ عظيم له صيت؟!)، فهاجر والد صلاح الدين من تكريت، ونزل في الموصل عند عماد الدين زنكي الذي أكرمه، ونشأ ابنه صلاح الدين نشأةً مباركةً؛ فحفظ القرآن الكريم، والكثير من الأحاديث الشريفة، وتربّى فيها على العزّ، والكرامة، والفروسيّة، وتدرّب على حمل السلاح ونما فيه حُب الجهاد.
يعتبر صلاح الدين زعيم مسلم شجاع عاش في القرن الثاني عشر، وتمتع بأسُس إسلاميّة راسخة جعلته يلتزم بقضايا الإسلام، مما جعله يحقّق إنجازات عظيمة، فقد وحّد مصر مع سوريا، واستعاد القدس من الصليبيين، وبذلك دخل اسمه في سجلّات كلٍّ من التاريخ الإسلاميّ والغربيّ.
أبرز ما اشتهر به صلاح الدين الأيوبي اتّصافه بالأخلاق الحميدة والصفات المميّزة التي جعلت منه شخصيّةً محبوبةً ومُهابة، ومن هذه الصفات:
نقاء السريرة لديه وحسن العقيدة: فلقد كان صلاح الدين كثير الذكر لله تعالى، وشديد المواظبة على الصلاة في أوقاتها، وفي أغلب الأحيان جماعة؛ حتى عُرِف عنه أنه كان لسنين طويلة يُصلّي جماعة، وإذا مرِض يُحضِر الإمام عنده ويكلّف نفسه القيام ويصلي جماعة، كما أنه كان مواظباً على السنن والرواتب وقيام الليل، وقد كان ملتزماً بإخراج الزكاة وصوم رمضان وصوم أيامٍ زائدة لتعويض ما قد يصيب صيامه من نقص، حتى في أيام مرضه كان مواظباً على الصوم. كان أيضاً ممن يحبون سماع القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بشغف، حتى إنّه كان يشترط في إمامه أن يكون عالماً بالقرآن الكريم ومتقناً لحفظه، وكان كثير التعظيم لشعائر الدين، وحسن الظن بالله تعالى متوكلاً عليه.
العدل: كان يؤمن أنّ العدل أحد نواميس الله في كونه وبأنه ثمرة من ثمرات الإيمان.
الشجاعة: وهي صفة ضروري تواجدها في الملك القائد حتى يبث الرعب لدى الأعداء وتسكن هيبته القلوب، وكذلك كان صلاح الدين بل من أعظم الشجعان، شديد البأس لا يخاف في الحق لومة لائم.
الكرم: كان صلاح الدين من أكرم الناس، حتى إنّه عند وفاته لم يجدوا في خزانته إلّا سبعة وأربعين درهماً ناصرية من الفضة، ومن الذهب إلا جرام واحد صوري.
الجهاد: كان صلاح الدين عظيم الاهتمام بالجهاد والمواظبة عليه، لقد كان شغوفاً ومحباً له؛ حيث لم يكن يسيطر على عقله وحديثه إلا الجهاد والحث عليه، وترَك الدنيا وما فيها من أهل وأولاد ووطن، وكان همّه هو الجهاد والفتوحات الإسلامية.
بداية حياة صلاح الدين العسكريّة بدأت عندما انضمّ إلى فريق عمّه "أسد الدين شيركوه" وهو قائد عسكريّ يعمل تحت إمرة "أمير الدين زنكي"، حيث نشأ في ذلك الوقت صراع ثلاثيّ معقّد بين "شاور" وزير الخلافة الفاطميّة في مصر، والملك الأول للقدس، و"شيركوه"، وفي عام 1169 وعندما كان صلاح الدين يبلغ من العمر 31 عاماً عُيّن قائداً للقوات السوريّة في مصر، حيث انطلق صلاح الدين إلى دمشق؛ ورحّبت به المدينة، وتزوّج من أرملة نور الدين وبذلك عزّز شرعيّته فيها، وقد تمكّن من فرض نفوذه على حلب والموصل، في حين كان صلاح الدين يعزّز سلطته في سوريا، أعلن هدنةً مع الصليبيين عام 1178، وكان هدفه أن يتعافى جيشه من الهزيمة، ولكنّه جدّد هجماته عام 1179، وهزم الصليبيّين في معركة مخاضة يعقوب، وهذا أدّى إلى عددٍ من ردود الفعل من الصليبيّين ومنها مضايقات التجارة الإسلاميّة وطرق الحج على البحر الأحمر، والتهديد بمهاجمة المدينة المنوّرة ومكّة المكرمة، ونهب قافلة حجّاج المسلمين. في الرابع من تموز عام 1187 استطاع صلاح الدين القضاء على الجيش الصليبيّ إلى حدٍ كبير في معركة مجتمعة بينه وبين ملك القدس آنذاك، وريموند الثالث من طرابلس، وكانت هذه المعركة نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ الحروب الصليبيّة، وسُميَّت هذه الواقعة بمعركة حطّين، وقد مهّدت الطريق لاستعادة المسلمين للقدس، وطرابلس، وأنطاكيا، وإبطال الإنجازات التي حققتها الحروب الصليبية في الأرض المقدّسة.
أما عن وفاته:
خرج صلاح الدين الأيوبي لملاقاة الحجاج العائدين من مكة المكرمة في 14/صفر عام 589هـ، وبعد عودته من هذا الاستقبال أصيب بالحمّى الصفراوية، واشتدّ عليه المرض وتزايد تدريجياً، حتى أصبحت حالته خطيرة وعجز الأطباء عن علاجه، وفي يوم الأربعاء في 27 صفر عام589هـ ازدادت حالته خطورةً، ودخل في غيبوبة طويلة لم يفق منها إلا قليلاً، وبعد صلاة الصبح من ذات اليوم أسلم الروح لبارئها وفارق الحياة.