كنت في فرع وزارة العدل بمنطقة عسير ذات مرة لأداء مهمة رسمية وأثناء حديثي مع فضيلة مدير عام الفرع رنّ جرس الهاتف وإذا بفضيلته يترحم على أحد الأشخاص ويدعو له بالمغفرة ثم أخذ يسأل عن السيارة كيف وضعها هل يمكن إصلاحها أم أنها أصبحت تالفة ومن المتسبب في الحادث وهل هناك طرف آخر ؟ وكم نسبة ادانته ؟....الخ وبعد انتهاء المكالمة أخبرني أن قاضياً بإحدى المحاكم بتهامة منطقة عسير وقع عليه حادث مروري وأنه توفى جراء الحادث فدعوت له بالمغفرة ثم قلت لفضيلته من باب المداعبه سمعتك تسأل عن السيارة أكثر من القاضي قال نعم لا تستغرب مني ذلك، تعيين قاض آخر بدلاً عن المتوفى يتم بسرعة وبسهولة تامة نحتاج فقط لقرار نقل أحد القضاة أو تكليفه للقيام بالعمل وينتهي الموضوع عند هذا الحد، أما السيارة فسوف تستغرق إجراءاتها وتأمين سيارة أخرى بدلاً عنها وقتاً طويلاً وإجراءات متعددة نبدأ أولاً بمعالجة موضوع السيارة التي وقع عليها الحادث نحتاج تقرير المرور وتحديد المتسبب وهل هناك طرف آخر ؟ وكم نسبة إدانته ؟ وهل يمكن إصلاحها ؟ وحينئذٍ لابد من تسعيرة من ثلاث ورش بتكاليف الإصلاح ومن ثم أخذ الموافقة من الوزارة للارتباط بالمبلغ وفي حال أصبحت تالفة تماماً نحتاج إلى بيعها في المزاد العلني ومن ثم إيداع قيمتها في مؤسسة النقد لحساب وزارة المالية وإنزالها من عهدة المحكمة ثم نبدأ مرحلة جديدة لتأمين سيارة بديلة وذلك بالإعلان عنها ثم تلقي العروض واختيار العرض الأنسب ومن ثم الرفع للوزارة للموافقة والارتباط بقيمتها وهذه الإجراءات تأخذ وقتاً طويلاً .
ثم قال ألا تتفق معي أن تأمين القاضي أسهل بكثير من تأمين السيارة ؟ قلت بل أتفق معك تماماً ، إنه الروتين المالي والإداري الذي لن نستطيع التخلص منه مهما حاولنا.
ولقد ذكرتني هذه القصة بمقولة لمعالي الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- أوردها في كتابه (حياة في الإدارة) ملخصها أن الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون قام بجولة في طائرة مروحية على مدينة واشنطن في بداية فترته الرئاسية الاولى فشاهد وهو في الطائرة بعض الأحياء الشعبية التي تحتاج إلى إعادة تخطيط وتنظيم فأصدر أمره فوراً بتنظيم تلك الأحياء وتخطيطها حتى تكون لائقة ً بالعاصمة الأمريكية وفي بداية ولايته الثانية كرر نفس الجولة ففوجئ بأن شيئاً لم يتغير وأن تلك الأحياء ما زالت كما هي وحين ناقش الموضوع مع المختصين في واشنطن اتضح أن الروتين هو السبب في عدم تنفيذ توجيهاته في حينها.