جعلتني جائحة كورونا وما ترتب عليها من منع التجول مساءاً أعود للوراء، وأتذكر الماضي لما قبل ستين عاماً أو تزيدأ تذكرت يوم كنا نعود لمنازلنا مع مغيب الشمس كل يوم نتفقد أغنامنا ومواشينا نرضع صغارها ونعزلهم في المكان المخصص لهم ونتفقد كبارها ونقوم بعدّها خشية أن يكون بعضها قد فقد ونصلي المغرب ثم نغلق الأبواب الخارجية ونستقر في غرفة واحدة على ضوء الفانوس او اللمبه " وسيلة الإضاءة ذلك الحين "أ وتسارع والدتي -رحمها الله - إلى تقديم وجبة العشاء خشية أن ينام الصغار قبل أن يتناولوا هذه الوجبةأ وبعد أداء صلاة العشاء في أول وقتها يخلد الجميع للنوم بعد يوم حافل بالتعب والجد والاجتهاد وقبل طلوع الفجر تستيقظ الوالدة لتبدأ برنامج يوم جديد فتقوم بأعداد وجبة للأبقار تسمى "صُواطَه" وهي عبارة عن كمية من الماء يضاف لها الدقيق والملح ويتم رفعها على النار حتى تغلي ثم تترك حتى تبرد ثم تقدم للأبقار كوجبة صباحية، ثم يستيقظ الجميع لصلاة الفجر كبار السن من الرجال في المسجد والصغار والنساء في المنزل، ثم يتناول الجميع طعام الإفطار والذي يتكون غالباً من خبز الذره أو الشعير أو البر في أوقات نادرة مع القهوة العربية، وأحياناً يكون مع كمية من الجراد المحمَّص حين يتم اصطياده سابقاً عند مهاجمته للمزارع، والمبيت ليلاً قريب منها فيسهل حينئذٍ جمعه واصطياده ومع إشراقة الشمس ينطلق الجميع في المهمات المسندة إليهم هذا مع الغنم وذاك مع البَهْم وهو صغار الغنم وآخر مع البقر يرعاها ويحافظ عليها والوالد- رحمه الله - ينطلق للمزرعة يحرث أو يسقي أو يحصد لينجز في يوم واحد ما ينجزه مجموعة من العمال، والوالدة تنطلق إلى أقرب بئر لتجلب الماء على ظهرها ثم تذهب إلى الأماكن الشجرية لتجمع الحطب ثم تلحق بالوالد لتساعده في أعمال الزراعة، وهكذا يوم متواصل من العمل والإنجاز والتعاون.
وحين بدأت المدارس النظامية في الثمانينات الهجرية كنا نذهب للمدرسة صباحاً مشياً على الأقدام وعند العودة منها بعد الظهر نقضي بقية نهارنا إما مع الغنم أو البهم اخر النهار أو لمساعدة أهلينا في المزارع وبالكاد نستطيع حل الواجبات المدرسية على ضوء الفانوس او اللمبه ما بين المغرب والعشاء والويل كل الويل لمن يأتي إلى المدرسة في اليوم الثاني ولم يقم بحل الواجب العقوبة تنتظره من معلم المادة، تذكرت ماضينا بحلوه ومُرِّه بإيجابياته وسلبياته تذكرت ذلك ونحن نلتزم بتعليمات حظر التجول ونجتمع في منازلنا مساءاً ولا نغادرها إلا صباحاً.
لعلنا نستفيد من الوضع الراهن ونستعيد ما هو جميل من تاريخنا الماضي بما في ذلك الاستقرار في البيوت واجتماع الإسر وإعداد الطعام الجيد والمضمون داخل منازلنا.