قبل ما يربو على خمسةٍ و عشرين سنة تقريباً أخبرتني إحدى شقيقاتي أنَّ معلمتها في اللغة العربية آنذاك كانت تعطي الطالبات بعض الجمل المفيدة لإعرابها و للتدرّب عليها نحوياً و بلاغياً، من بين تلك الجمل قولها "الحمار يغرد"، و برغم استجهان الطالبات للأمثلة الغريبة و غير المستقيمة في معناها و ذائقتها الأدبية إلا أنهن كن يرضخن لعنجهية "الأبله" و يحاولن ما أمكنهن إتقاء شرها.. أتذكر بعد فترة أنها طلبت مني أن أساعدها في كتابة مشاركة أدبية للمدرسة حتى تشارك بها ضمن إحدى منافسات إدارة تعليم المنطقة، و يالها من فرصة أتتني كي أشفي غليلي! فكتبتُ مقطوعةً أدبيةً ساخرةً عنونتها بـ "عندما يغرد الحمار" و قلت لربما بهكذا طريقة يستيقظ الحس الموسيقي لدى الأبله!.. العجيب أن المعلمة لما قرأت نص المشاركة طارت به فرحاً و استبشرت خيراً بالفوز بالمسابقة! و الكارثة و الطامة الكبرى أن المدْرسة فعلاً شاركت بالمقطوعة الساخرة!
قد تكون حالة خاصة و عرضية و لا يمكن التعميم بها أو القياس عليها، و لكن بالنظر الفاحص و بشيء من التدقيق و الملاحظة لما يُكتب اليوم على "تويتر" و يُتناقل على وسائل التواصل الاجتماعي من تغريدات و مشاركات، أستطيع القول و بلا تردد أن صاحبة تغريد الحمار لم تكن وحيدة، بل كان معها ألف حمار و حمارة! و أرجو ألا أكون قاسياً فيما أكتبه بعد كل هذه المدة، فعلى الرغم من توفر و تنوع مصادر و وسائل المعرفة أكثر منه في السابق إلا أن الأجيال الجديدة تثبت مع مرور الزمن أنها الأقل اهتماماً و حرصاً و جديةً في الحصول على المعرفة و الاستفادة منها بشكل فعّال، و هذا الأمر للأسف الشديد مؤشر على التخلف المعرفي.
الواقع يقول أنَّ هناك كمية كبيرة من التخلف نعيشها دوناً عن العالم المتحضر فكراً و صناعةً و حياة، و التخلف الذي أعنيه ليس بسبب أشكالنا و ألواننا و جيناتنا الوراثية، و لا لأننا لا نقرأ كثيراً أو أنه بسبب تضاريس و جغرافية بلادنا، لا طبعاً، و لكن هناك عوامل كثيرة و كثيرة جداً جعلتنا ندور في حلقةٍ مفرغةٍ تماماً من دواعي الفكر و نوازع التأمل.. خذ على سبيل المثال تساؤلاً أكاديمياً مباشراً، و في إجابته دليلٌ واضحٌ على التخلف؛ ما الذي يدعو جامعاتنا الكبرى للقيام بتسجيل عددٍ كبير من براءات الاختراع و مزاحمة الجامعات العالمية بغض النظر عن جودة المخترع و قيمته العلمية؟! و ما الذي يدعوها لاستقطاب علماء و باحثين غربيين بملايين الدولارات فقط لتبرز جامعاتنا هكذا في قوائم التنصيف الدولي و تتقدم على جامعات كـ هارفرد و جون هوبكنز و شمال كارولاينا؟! إلا التخلف و عدم الثقة في النفس و في القدرات.. التخلف الذي نحذّر منه ليس هو التخلف العقلي كمرض مستعصي و إنما التخلف العقلي كاختيار شخصي أو جمعي.
قد يغضب من نقدي الصريح هذا بعضُ الزملاء الأفاضل من الأكاديميين و خصوصاً أولئك الذين أحبهم و يتقاطعون معي في قراءة الواقع بشكل صحيح و إن اختلفنا في تصوير أسبابه و توصيف علاجه، إلا أن الوضوح في مثل هذه الموضوعات مطلبٌ أساسي و لا يحتمل المجاملات.. التفوق الفكري المتجذر في أصول الحضارة الإنسانية -من وجهة نظري- هو أعظم منتجاً و أكثر أمآناً من التفوق الاقتصادي المبني على ريع النفط و النفط فقط! أي نعم يمكن أن نطوّع المال في خدمة الفكر، و لكن في الوقت ذاته لا يمكن أن نستحوذ على الفكر و نكون في الطليعة بالمال وحده، مهما بذلنا و أعطينا و مهما تقدمنا ورقياً على كل جامعات العالم! في رأيي المتواضع جداً أنه لو نهق الحمار على طبيعته بدل أن يغرّد لعرفنا على الأقل كم حمار لدينا، و لما خدعنا أنفسنا كما لو لم نخدعها من قبل!
عندما يغرّد الحمار!
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://barq-org.sa/articles/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d9%8a%d8%ba%d8%b1%d9%91%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%85%d8%a7%d8%b1/